في الأول من يناير 1965، أُعلن عن تأسيس حركة التحرير الوطني الفلسطيني فتح. تشكلت الأنوية الأولى للحركة من لاجئين فلسطينيين في الكويت والسعودية وقطر، من أبرزهم ياسر عرفات وخليل الوزير ويوسف النجار وكمال عدوان ومحمود عباس ومنير سويد. لم تكن فتح هي حركة الكفاح الفلسطيني المسلح الأولى، فقد سبقتها للوجود حركة القوميين العرب بقيادة جورج حبش ووديع حداد وهاني الهندي. تأسست فتح على أرضية فك القرار الفلسطيني من التبعية للأنظمة العربية، باعتبار أن منظمة التحرير الفلسطينية التي أُنشئت عام 1964 بقرار من مؤتمر القمة العربي في العام نفسه، كانت خاضعة لنفوذ وتجاذبات هذه الأنظمة.
لم تتأسس فتح على أرضية أيديولوجية محددة، بل كانت ترفع شعار الكفاح المسلح بغض النظر عن التكوين الأيديولوجي، وإن كان الكثير من مؤسسيها ينحدرون من صفوف الإخوان المسلمين، فإن فتح تحولت بعد هزيمة يونيو إلى ما يشبه جبهة عريضة ضمت إسلاميين وقوميين عرباً وماركسيين ومتحدرين من تنظيمات شيوعية وناصرية. أتاح هذا التنوع إلى حد التناقض بين مكونات فتح فرصة للمركز القيادي، الذي برز عرفات على رأسه ومن حوله أبو جهاد وصلاح خلف وهايل عبد الحميد، التحكم في فتح ومركزة القرار واللعب على التناقضات بين مختلف الكتل، كما أتاح لهم اليد العليا في مواجهة التحديات التنظيمية الداخلية التي واجهت تلك القيادة بالذات.
اعتمد تمويل فتح على تبرعات سخية من رجال أعمال فلسطينيين في الخليج العربي وأوروبا، وبصعود عرفات لرئاسة منظمة التحرير وسيطرة فتح على مفاصل المنظمة ساد غموض شديد حول أموال المنظمة التي كانت تخص جميع التنظيمات المنضوية تحت لوائها، واندمجت مالية فتح بمالية المنظمة مما أتاح لحركة فتح موارد ضخمة تمركز التصرف فيها بأيدي عرفات بشكل رئيسي. وبحسب ورقة بحثية أعدها تيري جيمس بوك، كانت فتح قادرة على دفع مرتبات لأعضائها ثلاثة أضعاف ما تدفعه الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كثاني أكبر المنظمات الفلسطينية.
توسعت عضوية فتح بشكل كبير بعد هزيمة 1967 بسبب من أربعة عوامل، أولها الشلل التام لجيش التحرير الفلسطيني ومنظمة التحرير، الثاني هو الخلافات والتمزقات التي ضربت حركة القوميين العرب ووريثتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثالثها عمليات التسلل الجريئة التي كان عرفات يقوم بها إلى الضفة الغربية انطلاقاً من شرق الأردن، والعامل الرابع هو الصمود الذي أبدته فتح في معركة الكرامة عام 1968، بينما اتخذ قائد قوات الجبهة الشعبية في قرية الكرامة أحمد جبريل قراراً بالانسحاب عشية الهجوم الإسرائيلي اتقاءً لمواجهة جبهية مع عدو متفوق. وبرغم استشهاد ما يقارب من 120 فلسطينياً وأردنياً، وإعطاب أربع آليات للعدو واضطراره للانسحاب، وبالرغم من الدور المحوري الذي لعبته مدفعية الجيش الأردني في المعركة، فقد كانت الكرامة أول مواجهة يضطر فيها العدو للانسحاب، واستثمر عرفات وفتح هذا النصر إعلامياً بشكل فعال.
صارت فتح هي القوة الكبرى على الساحة الفلسطينية، وكانت العاصفة - ذراعها العسكرية – تعلن يومياً عن عشرات العمليات ومئات القتلى في صفوف العدو، والتي كان الكثير منها مفبركاً بحسب يزيد صايغ في كتابه «الكفاح الفلسطيني المسلح والبحث عن الدولة».
بحلول 1968 فازت فتح برضا عبد الناصر الذي كان حتى هذا الحين يدعم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ويحتفظ بعلاقة وثيقة مع قائدها جورج حبش، لكن تبني الجبهة للماركسية في مؤتمرها الأول وتوجيه نقد لاذع لأنظمة البرجوازية المهزومة في 1967 أدى بعبد الناصر إلى قطع المال والسلاح عن الجبهة وغلق معسكرات تدريبها في مصر، ووضع ثقله خلف عرفات وفتح. كان غياب موقف أيديولوجي واضح لفتح يضمن لها علاقات جيدة بكلا المحورين في النظام العربي، وقد كانت الثمرة الأولى التي جناها عرفات هي الدعم العربي له قائداً لمنظمة التحرير ثم اصطحاب عبد الناصر له إلى موسكو وتقديمه للسوفييت كزعيم للفلسطينيين في 1968.
كان عرفات هو القائد الثالث لمنظمة التحرير بعد أحمد الشقيري ويحيى حمودة، غير أن قدرة عرفات على المناورة قد وُضعت في امتحان عسير في الأردن. كانت فتح ترفع شعار عدم التدخل في شئون البلاد العربية ويقابله عدم التدخل العربي في الشأن الفلسطيني، غير أنه لم يدرك أنه من المستحيل أن تسمح الأنظمة العربية بقرار فلسطيني مستقل فعلياً، وأن الورقة الفلسطينية هي جزء من الشرعية التي بُنيت عليها تلك الأنظمة. هذا القول بعدم التدخل جعل عرفات ممثلاً للاعتدال الفلسطيني في مواجهة اليسار الذي رفع شعار تحويل الأردن إلى قاعدة ثورية للمقاومة. وبينما كانت الأنظمة العربية تراهن على فتح لكبح جماح يسار الثورة الفلسطينية، كان الأخير يضغط بشدة لجر فتح بثقلها إلى المعركة ضد العرش الهاشمي.
بعد الهزيمة في الأردن والخروج إلى لبنان، بدأت فتح، وبالتالي منظمة التحرير التي تسيطر فتح على جميع تشكيلاتها، تدخل في عملية فرز سوف تتسارع بعد حرب أكتوبر وبرنامج النقاط العشر، الذي طرحته الجبهة الديمقراطية باعتباره أول برنامج مرحلي تتبناه فتح ومنظمة التحرير يتخلى عن هدف التحرير الكامل – وإن بشكل مؤقت ظاهرياً – على ضوء التطورات الإقليمية بعد حرب أكتوبر 1973. بدأت فتح تحاول وعلى رأسها عرفات أن تقدم نفسها إقليمياً كدولة في المنفى، وقد انعكس هذا على بنيتها التنظيمية التي صارت تتخلى أكثر فأكثر عن منطق الثورة وتتبقرط كدولة ذات روافد تمويلية غزيرة، يديرها ياسر عرفات على أساس شبكات نفعية ومصلحية لا تضع مبدأ الكفاءة والإيمان بقضية على قمة الأولويات. صارت فتح تمتلك شبكات أمان ومؤسسات اجتماعية في لبنان تقدم خدمات كثيفة لسكان المخيمات، بل تتولى جزءاً ضخماً من أدوار دولة لبنانية ممزقة وعلى وشك الانفلاش بدافع تناقضاتها. ومارس عرفات لعبة التوازنات المحببة إليه داخل فتح وفي الساحة السياسية اللبنانية.
داخل فتح صار يعمل بجد لخلق شبكة من الولاءات تحيط به، عبر حصر الموارد المالية لفتح ومنظمة التحرير في يديه، ما أدى إلى المزيد من التركيز في صناعة القرار داخل فتح، وصار يقوض مكانة الزعامات التاريخية داخل فتح، كخليل الوزير، عبر سحب صلاحياته المالية ما جعل خليل الوزير الذي كان مسئولاً أغلب الوقت عن العمل في الضفة الغربية ينتظر موافقة عرفات على أوجه الصرف المالية في كل قرار بما يقوض مكانته أمام أنصاره. كان هذا متبعاً مع الجميع، وصار عرفات يبتدع أجهزة موازية لأجهزة قائمة بنفس مهامها لكن خاضعة له شخصياً، وبالتالي تركيز وربط جميع أوجه النشاط في فتح بشخصه فقط.
كانت بنية فتح كحركة فضفاضة بلا نظام داخلي متماسك تسمح لعرفات ببناء شبكة المحسوبيات تلك، التي رافقها تسيب في إجراءات الأمن وفوضى وانفلاش تنظيمي، بالإضافة إلى هذا، كان تبني الحل المرحلي، يستتبع لا تعزيز البنية العسكرية على طريق حرب التحرير الشعبية، بل تحويل قوات فتح إلى وحدات نظامية تشبه الجيوش التقليدية قُسمت إلى فرق وكتائب وسرايا بقادة ذوي رتب وتدرج هرمي، وسعى عرفات لدى الصينيين – بحسب صلاح خلف في مذكراته – للحصول على دبابات وأسلحة ثقيلة وعربات مدرعة. كانت فتح تسعى لتقديم نفسها كدولة ذات جيش نظامي وتلعب أدواراً اجتماعية يمكنها تولي مسئولية الأرض المحتلة عام 1967.
بالإضافة إلى هذا، كانت كل فصائل الثورة الفلسطينية منذ الانتقال إلى لبنان تسعى للحفاظ على قواتها في لبنان كآخر معقل يمكنها من العمل بحرية ضد إسرائيل، وبينما كان اليسار الفلسطيني يوطد علاقاته بالحركة الوطنية اللبنانية التي ضمت بشكل رئيسي الحزب الشيوعي ومنظمة العمل والحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة كمال جنبلاط، كان عرفات يلعب على جميع الأطراف، فبالإضافة لعلاقاته بالحركة الوطنية اللبنانية، تواصل عرفات سراً مع قيادات الموارنة، كما غذى بعض التجمعات الشيعية في الجنوب بالمال، بالإضافة إلى علاقاته ببعض الجماعات السلفية في شمال لبنان.
وفي حين كان يمين فتح متمركزاً حول عرفات يفرض قبضته على الحركة، كانت فتح ككيان فضفاض يعمل في بيئة إقليمية شديدة السيولة تمور بتناقضات أسفرت أول ما أسفرت عن انشقاق صبري البنا – أبو نضال - في 1974 فيما بدا كرد فعل على تمرير برنامج النقاط العشر، بالإضافة إلى هذا تشكل داخل فتح تيار عريض من يسار المنظمة لم يتكتل بشكل واضح في هيئات تنظيمية، وإن تعددت مراكزه، فكانت هناك مجموعة متمحورة حول ماجد أبو شرار مسئول الإعلام المركزي ونمر صالح، وكان هذا التيار يتمتع بعلاقات مع الأحزاب الشيوعية التقليدية ويميل إلى السوفييت.
المركز الآخر كان من أنصار الخط الفيتنامي داخل فتح، رموزه كانت حنا ميخائيل وأبو فارس مرعي وأبو نائل، وكان له نفوذ في قوات العاصفة متمثلاً في أبو موسى وأبو خالد العملة وهما من قادا انشقاق 1983 المدعوم سورياً، والذي حمل اسم فتح – الانتفاضة. كان هذا التيار يتبنى الماركسية ويحمل نقداً عميقاً للزبائنية والمحسوبيات والانفلاش التنظيمي داخل فتح، كما كان معادياً للحل المرحلي ويطالب بتحول فتح عملياً إلى جبهة تضم حزباً طليعياً استلهاماً للخط الفيتنامي.
التيار الثالث كان أقرب للماوية ويمثله منير شفيق ومعين الطاهر ومروان الكيالي، وهو تيار بدأ معادياً للتسوية ثم أبدى فيما بعد مرونة مع الطرح المرحلي.
بعد خروج مصر من معادلة الصراع العربي الصهيوني، قدمت سوريا نفسها كقائد للمواجهة في الإقليم، غير أن سوريا لم تكن تتصور قتالاً فعلياً مع إسرائيل، بل الاستحواذ على ما هو متاح من أوراق الضغط للخروج بتسوية بشروط أفضل. كانت الورقة الفلسطينية هي الورقة الأهم، وقد بدأ الشقاق بين فتح ونظام الأسد منذ تبني الحل المرحلي في 1974. كانت سوريا ترفض تسويق الفلسطينيين لأنفسهم كطرف مستقل في التسوية، بل ضمن أوراق اللعب السورية، بينما كان مشروع عرفات وفتح الأساسي هو تأميم القرار الفلسطيني الذي ظل رهينة لدى الأنظمة العربية، وهو الشعور الذي تعزز بعد 1967.
تعمق الخلاف مع سوريا حين اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية، وبدا أن الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية على وشك تحقيق انتصار واضح على اليمين اللبناني، فكان تدخل الجيش السوري الذي هاجم القوات المشتركة وقطع خطوط إمدادها ودعم الموارنة بالسلاح وعضدهم في حصار تل الزعتر حتى سقوطه.
شهد العام 1979 تغيراً مؤقتاً في النهج السوري حين أوعزت سوريا للتنظيمين التابعين لها في منظمة التحرير – الصاعقة والقيادة العامة – بكسر تكتل اليسار بقيادة الجبهتين الشعبية والديمقراطية، الهادف إلى وضع حد لهيمنة فتح وعرفات على المنظمة وعلى قراراتها وهيئاتها وماليتها. لم تكن مناورة سوريا سوى رغبة منها في عدم منح اليسار نفوذاً أكبر في المنظمة، غير أن الخلاف تصاعد وانفجر في 1983 حين انشق أبو خالد العملة وأبو موسى بقوات من الصاعقة وأسسا فتح الانتفاضة بدعم سوري وليبي. كان الانشقاق كبيراً ومؤثراً، وبداية لسلسلة من المواجهات بين فتح وسوريا على الأراضي اللبنانية، كانت حلقتها الأوسع هي حرب المخيمات التي شنتها حركة أمل بأمر ودعم سوريين لاستئصال الوجود الفلسطيني، وتحديداً قوات فتح الباقية في مخيمات اللجوء الفلسطيني في لبنان.
في 1982، اجتاحت القوات الإسرائيلية لبنان بغرض طرد قوات الثورة الفلسطينية، وبالرغم من علم عرفات وقادة منظمة التحرير بنية إسرائيل الهجوم، فإن النتائج على الأرض كانت انعكاساً لسنوات من التحول في بنية فتح وبدرجة ما بقية الفصائل التي استُدرجت لمنافسة فتح بدلاً من الاهتمام بتصليب استراتيجيتها السياسية والتنظيمية.
كانت البنية النظامية لقوات فتح تعني مواجهة جبهية مع عدو متفوق على مستوى القوة النيرانية والتكنولوجيا، بالإضافة للهيمنة الجوية، وهو ما أدى لانهيار المقاومة فوراً، وتراجع قوات المنظمة التي وُضعت كلها تحت قيادة سعد صايل، وباستثناء جيوب كخلدة وقلعة الشقيف، كان الأداء العسكري لفتح كأكبر الفصائل شديد السوء، تمت انسحابات بدون أوامر، بينما كان قادة الوحدات أول الفارين. لقد حول عرفات قوات العاصفة إلى وحدات ثقيلة بمعدات لا تستطيع مجابهة العدو، بالإضافة إلى ذلك، كانت القوة البشرية للوحدات على الورق أقل من الواقع الفعلي، لم يكن هذا استعداداً لمواجهة إسرائيل، لأن منظمات الكفاح المسلح التي انطلقت للعمل العسكري بعد هزيمة الجيوش النظامية في 1967 كانت جميعها قد أقرت بأنه لا سبيل لردم الفجوة التكنولوجية مع العدو، والحل هو مواجهته بحرب العصابات كمقدمة لحرب الشعب، غير أن المواجهة في لبنان كانت نقيض كل تلك التصورات.
كان الخروج من بيروت هزيمة فعلية، لأنها قلصت هامش المناورة أمام عرفات وفتح، حتى بخصوص حل على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338. وبينما كانت علاقات فتح وعرفات بالسوريين في أسوأ حالاتها، أعاد عرفات لفتح قنوات اتصال مع الملك حسين، وصدر الاتفاق الأردني الفلسطيني لعام 1985 الذي طرح فكرة اتحاد كونفيدرالي فلسطيني أردني، أي وضع القرار الفلسطيني في حيازة الأردن الذي يشكل وفداً مفاوضاً يضم إليه عناصر من منظمة التحرير. لقي الاتفاق رفضاً من المعارضة الفلسطينية كما رفضته سوريا، ما دعا الأردن لإلغاء الاتفاق في مطلع العام 1986.
كانت فتح قد تحولت عبر هذا المجال الزمني من حركة واسعة متعددة التيارات إلى ممثل حصري لليمين الفلسطيني ممثلاً في عرفات والعناصر القديمة التي كانت تتمتع بدعم واسع من رجال الأعمال الفلسطينيين، وقد انحل يسار الحركة لجملة من العوامل من بينها الاغتيالات كحالة ماجد أبو شرار، أو الانشقاق الذي قاده أبو خالد العملة وأبو موسى وانتهى بعد مواجهات عسكرية واسعة في لبنان، أو التحلل الذاتي نتيجة تحولات أيديولوجية كما حدث مع مجموعة منير شفيق. تزامن هذا بالأساس مع تراجع اليسار العالمي والعربي والفلسطيني وصعود التيارات الإسلامية التي أنعشها انتصار الخومينية في إيران.
كان سعي عرفات المحموم إلى الدولة تعبيراً عن رغبة برجوازية فلسطينية في سوق. وكان هذا السعي يواجه حقائق صعبة بالنسبة لفتح، أولها تراجع التدفقات المالية الخليجية، ثانيها عزلة إقليمية حاول عرفات كسرها بالتقرب لنظام مبارك وهو ما جلب عليه مزيداً من الغضب من سوريا وجبهة الرفض، ثالثها أن إسرائيل والولايات المتحدة رفضوا الاعتراف به وبمنظمة التحرير كممثلين للشعب الفلسطيني، وكانت منظمة التحرير تقف شاهداً على الانقسام الفلسطيني، فصارت المنظمة هي فتح وفتح هي المنظمة.
في 1988 أعلن عرفات استقلال دولة فلسطين على أساس حل الدولتين مع الاعتراف بحق الجميع في العيش بسلام. هذا التنازل في نص الإعلان لم يكن مرضياً لإسرائيل والولايات المتحدة، وتطلب من عرفات المزيد من التنازلات التي لم يمثل فيها الإجماع الفلسطيني، تنازلات تكللت باتفاقيات أوسلو التي أنشأت شبح سلطة فلسطينية بثمن التزم به عرفات في رسالة أرسلها إلى رابين في سبتمبر 1993 ذيلها بتوقيع «المخلص» ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، اعترف فيها بحق إسرائيل في الوجود وتدين استخدام العنف باعتباره إرهاباً كما يلتزم بإلزام كل عناصر منظمة التحرير بالتخلي عن العنف، وإسقاط كل المواد التي تعلن إزالة إسرائيل هدفاً تسعى إليه عبر الكفاح المسلح من الميثاق الوطني الفلسطيني الصادر عام 1968، وبالفعل تمت المصادقة في اجتماع المجلس الوطني المنعقد في غزة في 14/02/1996 على إلغاء 12 مادة وتعديل 15 مادة من أصل 33 مادة هي مجموع مواد الميثاق. ليرد رابين على رسالة عرفات رداً مقتضباً يعترف فيه بمنظمة التحرير ممثلاً للشعب الفلسطيني. لم يوافق على تعديل الميثاق سوى قيادة منظمة التحرير وحزب الشعب الفلسطيني.
بالمجمل لم يكن هذا المسار يمثل سوى القيادة المتنفذة في منظمة التحرير، وأفضى إلى إنشاء سلطة حكم ذاتي – لا دولة ذات سيادة – وتخضع اقتصادياً بموجب اتفاقيات مكملة للاقتصاد الإسرائيلي، بينما اتفق على إنشاء جهاز أمن مسئوليته تفكيك العمل المسلح في الضفة وغزة، جهاز أمن تشكل أساساً من عناصر فتح التي حملت فيما مضى السلاح ضد إسرائيل.
بتخليها عن الكفاح المسلح وتوقيع أوسلو فقدت فتح مبرر وجودها ومعها منظمة التحرير التي تحولت من مظلة جامعة لقوات الثورة الفلسطينية إلى جهاز ابتلعته حركة فتح بمقدراته، وفي سعيها للدولة، تحولت فتح إلى أي شيء آخر غير الدولة، إلى سلطة نشأت بتنسيق اتفاقيات أوسلو، تمتلك سلطة شكلية على الأرض التي قامت عليها – الضفة وغزة - إلا أنها غير قادرة على مواجهة الاجتياحات المتتالية للضفة والاجتياح الحالي لغزة، وغير راغبة، كما أنها فشلت في إيقاف الزحف الاستيطاني.
أدى هذا التراجع الدرامي لفتح إلى هزيمتها أمام حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006. تلك الهزيمة التي لم تتقبلها فتح، ليس من منطلقات وطنية، بل لخوفها من صعود قوة تمتلك شرعية قادرة على الحلول محلها، سواء كسلطة أو كحركة مقاومة، أو كممثل بديل للشعب الفلسطيني.
وبينما لم تتحول حماس إلى سلطة في غزة معترف بها دولياً، ولم تنَل إجماعاً فلسطينياً كاملاً، فإن الالتفاف حول حماس وباقي فصائل المقاومة في السابع من أكتوبر الماضي قد طعن من جديد في مسألة شرعية فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، وشرعية الاتفاقات التي أبرمتها في التسعينيات، وهو ما يبرر صمت السلطة الفلسطينية على اجتياح الضفة ونوايا ضمها والتصريحات الصادرة من قادة فتح منذ بدأت الحرب، ومحاولات فتح ومخابرات السلطة المستمرة لاختراق وتقويض الحاضنة الشعبية في غزة، قد تكون سعياً منها لتقديم نفسها كبديل لحكم القطاع في ترتيبات اليوم التالي من الحرب. غير أن مسار الأوضاع في الضفة، والذي وضعت فيه عناصر السلطة نفسها كنقيض لنهوض الفلسطينيين فيها يقوض فرصتها في إقناع إسرائيل والولايات المتحدة بصلاحيتها كحاكم لغزة، بل قد يكون استبدالها أمراً مطروحاً.